الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
أفلا يكون لكم في ذلك آيات تغنيكم عن إرسال الرسل فضلًا عن أن تتوقفوا بعد إرسالهم ولا ترضوا منهم من خوارق العادات إلا بما تقترحونه.ولما أشار إلى ما شارك فيه سائر الحيوان للآدميين من أحوال الحياة وغيرها، نص على الحشر الذي هو محط الحكمة فقال: {ثم} أي بعد طول الحياة والإقامة في البرزخ {إلى ربهم} أي خاصة، وبني للمفعول على طريق كلام القادرين قوله: {يحشرون} أي يجمعون كرهًا بعد أن يعيدهم كلهم كما بدأهم، وينصف كل مظلوم منهم من ظالمه، كل ذلك عليه هيّن {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة} [لقمان: 28] والكل محفوظون في كتاب مبين على اختلاف أنواعهم وتباين حقائقهم وأشخاصهم وزيادتهم في الجد على أن يوجه نحوهم العد- سبحان من أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، إن ذلك على الله يسير، وهو على كل شيء قدير. اهـ.
فذكر الجناح ليتمحض هذا الكلام في الطير.والثالث: أنه تعالى قال في صفة الملائكة {جَاعِلِ الملائكة رُسُلًا أُوْلِى أَجْنِحَةٍ مثنى وثلاث ورباع} [فاطر: 1] فذكر هاهنا قوله: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} ليخرج عنه الملائكة فإنا بينا أن المقصود من هذا الكلام إنما يتم بذكر من كان أدون حالًا من الإنسان لا بذكر من كان أعلى حالًا منه.السؤال الرابع: كيف قال: {إِلاَّ أُمَمٌ} مع إفراد الدابة والطائر؟والجواب: لما كان قوله: {وَمَا مِن دَابَّةٍ وَلاَ طَائِرٍ} دالًا على معنى الاستغراق ومغنيًا عن أن يقول: وما من دواب ولا طيور لا جرم حمل قوله: {إِلاَّ أُمَمٌ} على المعنى.السؤال الخامس: قوله: {إِلاَّ أُمَمٌ أمثالكم} قال الفرّاء: يقال إن كل صنف من البهائم أمة وجاء في الحديث: «لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها» فجعل الكلاب أمة.إذا ثبت هذا فنقول: الآية دلت على أن هذه الدواب والطيور أمثالنا، وليس فيها ما يدل على أن هذه المماثلة في أي المعاني حصلت ولا يمكن أن يقال: المراد حصول المماثلة من كل الوجوه وإلا لكان يجب كونها أمثالًا لنا في الصورة والصفة والخلقة وذلك باطل فظهر أنه لا دلالة في الآية على أن تلك المماثلة حصلت في أي الأحوال والأمور فبينوا ذلك.والجواب: اختلف الناس في تعيين الأمر الذي حكم الله تعالى فيه بالمماثلة بين البشر وبين الدواب والطيور وذكروا فيه أقوالًا:القول الأول: نقل الواحدي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يريد، يعرفونني ويوحدونني ويسبحونني ويحمدونني.وإلى هذا القول ذهب طائفة عظيمة من المفسرين وقالوا: إن هذه الحيوانات تعرف الله وتحمده وتوحده وتسبحه واحتجوا عليه بقوله تعالى: {وَأَنْ مِمَّنْ شيء إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] وبقوله في صفة الحيوانات {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41] وبما أنه تعالى خاطب النمل وخاطب الهدهد، وقد استقصينا في تقرير هذا القول وتحقيقه في هذه الآيات.وعن أبي الدرداء أنه قال: أبهمت عقول البهائم عن كل شيء إلا عن أربعة أشياء: معرفة الإله، وطلب الرزق، ومعرفة الذكر والأنثى، وتهيوء كل واحد منهما لصاحبه.وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قتل عصفورًا عبثًا جاء يوم القيامة يعج إلى الله يقول يا رب إن هذا قتلني عبثًا لم ينتفع بي ولم يدعني آكل من خشاش الأرض».والقول الثاني: المراد إلا أمم أمثالكم في كونها أممًا وجماعات وكونها مخلوقة بحيث يشبه بعضها بعضًا، ويأنس بعضها ببعض، ويتوالد بعضها من بعض كالإنس إلا أن للسائل أن يقول حمل الآية على هذا الوجه لا يفيد فائدة معتبرة لأن كون الحيوانات بهذه الصفة أمر معلوم لكل أحد فلا فائدة في الاخبار عنها.القول الثالث: المراد أنها أمثالنا في أن دبرها الله تعالى وخلقها وتكفل برزقها وهذا يقرب من القول الثاني في أنه يجري مجرى الاخبار عما علم حصوله بالضرورة.القول الرابع: المراد أنه تعالى كما أحصى في الكتاب كل ما يتعلق بأحوال البشر، من العمر والرزق والأجل والسعادة والشقاوة فكذلك أحصى في الكتاب جميع هذه الأحوال في كل الحيوانات.قالوا: والدليل عليه قوله تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيءٍ} وليس لذكر هذا الكلام عقيب قوله: {إلا أممٌ أمثالُكُمْ} فائدةً إلا ما ذكرناه.القول الخامس: أراد تعالى أنها أمثالنا في أنها تحشر يوم القيامة يوصل إليها حقوقها، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقص للجماء من القرناء».القول السادس: ما اخترناه في نظم الآية، وهو أن الكفار طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم الإتيان بالمعجزات القاهرة الظاهرة، فبين تعالى أن عنايته وصلت إلى جميع الحيوانات كما وصلت إلى الإنسان.ومن بلغت رحمته وفضله إلى حيث لا يبخل به على البهائم كان بأن لا يبخل به على الإنسان أولى، فدل منع الله من إظهار تلك المعجزات القاهرة على أنه لا مصلحة لأولئك السائلين في إظهارها، وأن إظهارها على وفق سؤالهم واقتراحهم يوجب عود الضرر العظيم إليهم.القول السابع: ما رواه أبو سليمان الخطابي عن سفيان بن عيينة، أنه لما قرأ هذه الآية قال: ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من بعض البهائم، فمنهم من يقدم إقدام الأسد، ومنهم من يعدو عدو الذئب، ومنهم من ينبح نباح الكلب، ومنهم من يتطوس كفعل الطاوس، ومنهم من يشبه الخنزير فإنه لو ألقي إليه الطعام الطيب تركه وإذا قام الرجل عن رجيعه ولغ فيه.فكذلك نجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمة لم يحفظ واحدة منها، فإن أخطأت مرة واحدة حفظها، ولم يجلس مجلسًا إلا رواه عنه.ثم قال: فاعلم يا أخي إنك إنما تعاشر البهائم والسباع، فبالغ في الحذار والاحتراز، فهذا جملة ما قيل في هذا الموضع. اهـ.قال الفخر:ذهب القائلون بالتناسخ إلى أن الأرواح البشرية إن كانت سعيدة مطيعة لله تعالى موصوفة بالمعارف الحقة وبالأخلاق الطاهرة، فإنها بعد موتها تنقل إلى أبدان الملوك، وربما قالوا إنها تنقل إلى مخالطة عالم الملائكة، وأما إن كانت شقية جاهلة عاصية فإنها تنقل إلى أبدان الحيوانات، وكلما كانت تلك الأرواح أكثر شقاوة واستحقاقًا للعذاب نقلت إلى بدن حيوان أخس وأكثر شقاء وتعبًا، واحتجوا على صحة قولهم بهذه الآية فقالوا: صريح هذه الآية يدل على أنه لا دابة ولا طائر إلا وهي أمثالنا، ولفظ المماثلة يقتضي حصول المساواة في جميع الصفات الذاتية أما الصفات العرضية المفارقة، فالمساواة فيها غير معتبرة في حصول المماثلة.ثم إن القائلين بهذا القول زادوا عليه، وقالوا: قد ثبت بهذا أن أرواح جميع الحيوانات عارفة بربها وعارفة بما يحصل لها من السعادة والشقاوة، وأن الله تعالى أرسل إلى كل جنس منها رسولًا من جنسها، واحتجوا عليه بأنه ثبت بهذه الآية أن الدواب والطيور أمم.ثم إنه تعالى قال: {وَإِن مّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] وذلك تصريح بأن لكل طائفة من هذه الحيوانات رسولًا أرسله الله إليها.ثم أكدوا ذلك بقصة الهدهد، وقصة النمل، وسائر القصص المذكورة في القرآن.واعلم أن القول بالتناسخ قد أبطلناه بالدلائل الجيدة في علم الأصول، وأما هذه الآية فقد ذكرنا ما يكفي في صدق حصول المماثلة في بعض الأمور المذكورة، فلا حاجة إلى إثبات ما ذكره أهل التناسخ. والله أعلم. اهـ.
|